خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 15 من ربيع الآخر 1438 هـ الموافق 13 / 1 / 2017م
بَرَاءَةُ الدِّينِ ... مِنْ تَطَرُّفِ المُعْتَدِينَ
إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [ آل عمران: 102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ r، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ اللهَ تعالَى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ، وجَعَلَ دِينَهُ دِيناً وَسَطاً خِيَاراً بَيْنَ الأُمَمِ والأَدْيَانِ )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( [البقرة:143]، وخَصَّ هَذا الدِّينَ بِالسَّماحَةِ والرِّفْقِ واليُسْرِ، في أُصُولِهِ وشَرائِعِهِ وآدَابِهِ، وأَمَرَ النَّاسَ بِسُلُوكِ مَنْهَجِ الصَّالِحِينَ، سَبِيلِ الحَقِّ الواضِحِ المُبِينِ، فَلا إِفْراطَ ولَا تَفْرِيطَ، ونَهاهُمْ عَنِ الغُلُوِّ في دِينهِ كَما نَهَى الأُمَمَ السَّابِقَةَ، فقالَ سُبْحانَهُ - لِأَهْلِ الكِتَابِ وهُوَ لَهُمْ ولِغَيْرِهِمْ: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ( [المائدة:77].
ونَهَى النَّبِيُّ r أُمَّتَهُ عَنِ التَّنَطُّعِ والتَّشَدُّدِ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ r: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» قالَها ثَلاثاً [رَواهُ مُسْلِمٌ].
والتَّنَطُّعُ: هُوَ التَّكَلُّفُ في العَمَلِ ما لا يَطِيقُ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ عَنِ العَدْلِ والوَسَطِ، والغُلُوُّ: هُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في فَهْمِ الدِّينِ وتَطْبِيقِهِ، وهَذِهِ السِّمَاتُ هِيَ سِمَاتُ التَّطَرُّفِ الَّذِي يَسْلُكُ فِيهِ الغَالِي مَسْلَكاً خَطِراً في فَهْمِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ والسُّنَنِ النَّـبَوِيَّةِ، ويَتَكَلَّفُ عِنْدَ العَمَلِ حتَّى يَتَجاوَزَ الحَدَّ، وهَذا مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ وخُطُوَاتِهِ لِيَفْتِنَ النَّاسَ عَنْ دِينِهِمْ، ويَصُدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، حتَّى رَأَيْنا اليَوْمَ مِنْ شَبَابِ الإِسْلامِ مَنْ فَتَنَهُ الشَّيْطَانُ، وغَرَّهُ فَهْمُهُ القَاصِرُ والنَّاقِصُ لِلدِّينِ، فَغَلا في فَهْمِهِ وتَطْبِيقِهِ، فلَمْ يَقْبَلْ رُشْداً، ولَمْ يَسْمَعْ نُصْحاً، ولَمْ يَرْجِعْ لِلرَّاسِخِينَ في العِلْمِ، فَصَرَفَهُ ذَلِك عَنِ الحَقِّ والعَدْلِ وطَاعَةِ اللهِ تعالَى، وقَدْ جاءَ مَثَـلٌ لِذَلِكَ زَمَنَ النَّبِيِّ r، إِلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلامُ عَالَجَهُ، وَوَاجَهَهُ بِالنُّصْحِ والتَّوْجِيهِ، ثُمَّ بِالتَّحْذِيرِ والتَّخْوِيفِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أَنَّه قالَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ r يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ r، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا [أَيْ: عَدُّوهَا قَلِيلَةً]، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ r؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا [أَيْ: دَائِماً دُونَ انْقِطَاعٍ]، وَقَالَ آخَرُ: أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ [أَيْ: أُوَاصِلُ الصِّيَامَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ]، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ r فقالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
فعَلَى شَبَابِنَا اليَوْمَ وعلَى كُلِّ مَنْ غَرَّهُ وفَتَنَهُ الشَّيْطَانُ ورُفَقَاءُ السُّوءِ والْهَوَى بِفِتْنَةِ التَّطَرُّفِ والغُلُوِّ أَنْ يَسْتَمِعُوا إلَى نُصْحِ العُلَماءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وتَوْجِيهِ الفُضَلاءِ المُخْلِصِينَ، والعُقَلاءِ المُتَّزِنِينَ، فَهُمْ لَيْسُوا بِأَفْضَلَ مِنْ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ رَجَعُوا بَعْدَ النَّصِيحَةِ، فَدِينُ اللهِ تعالَى يُسْرٌ في كُلِّ تَشْرِيعَاتِهِ وأحْكَامِهِ وآدَابِهِ؛ قالَ r: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» [رواهُ البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ t].
عِبادَ اللهِ يَا رَعَاكُمُ اللهُ:
إِنَّ النَّبِيَّ r كانَ حَرِيصاً علَى تَوْجِيهِ أُمَّتِهِ ونُصْحِهَا، فَشَدَّدَ في تَحْذِيرِهَا مِنْ خَطَرِ التَّطَرُّفِ والغُلُوِّ، حتَّى لا تَقَعَ فِيهِ كَما وَقَعَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ، قالَ r: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ» [رواهُ أَبو داوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ t وصَحَّحَهُ الألْبانِيُّ].
وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r غَدَاةَ جَمْعٍ (مُزْدَلِفَةَ): «هَلُمَّ الْقُطْ» أَيْ: حَصَى الجِمَارِ، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ [أَيْ: صَغِيرَةٍ]، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ ، قَالَ: «نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ» [رَواهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ].
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: «وهَذا عَامٌّ في جَمِيعِ أَنْوَاعِ الغُلُوِّ في الِاعْتِقَادَاتِ والأَعْمَالِ، وسَبَبُ هَذا اللَّفْظِ العَامِّ رَمْيُ الجِمَارِ، وهُوَ دَاخِلٌ فيهِ مِثْلُ الرَّمْيِ بالحِجَارَةِ الكَبِيرَةِ بِنَاءً علَى أَنَّها أَبْلَغُ مِنَ الصَّغِيرَةِ» انْتَهَى .
فَمُوَاجَهَةُ التَّطَرُّفِ واجِبٌ عَلَيْنا جَمِيعاً، أَفْراداً وجَمَاعَاتٍ، ومَرَاكِزَ ومُؤَسَّسَاتٍ، والتَّحْذِيرُ مِنْ خَطَرِهِ حَتَّى لا نَرَى ما حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ r وَاقِعاً في مُجْتَمَعاتِنَا ، فَقَدْ رَأَيْنا بَعْضَهُمْ قَدْ حَمَلَهُ التَّطَرُّفُ علَى أَنْ يُكَفِّرَ المُسْلِمِينَ، ويَسْتَبِيحَ قَتْلَهُمْ وسَلْبَهُمْ والتَّعَدِّيَ عَلَيْهِمْ بِاسْمِ الدِّينِ، فأَيْنَ ذَهَبْتَ عُقُولُ هَؤُلاءِ؟! وأَيُّ دِينٍ هَذَا الَّذِي يُبِيحُ قَتْلَ الأَنْفُسِ المَعْصُومَةِ، وإِزْهَاقَ الدِّماءِ المُحَرَّمَةِ، وإِلْحَاقَ الأَذَى بِالآخَرِينَ؟! قالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ: «وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ» [رَواهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t].
وهذِهِ الأَعْمَالُ مِنْ أَشَرِّ البِدَعِ الَّتِي ظَهَرَتْ في الأُمَّةِ، ومِنَ المُحْدَثَاتِ المَرْدُودَةِ علَى أَصْحَابِهَا؛ فَعَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ r: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» [رواهُ البُخَارِيُّ] أَيْ: مَرْدُودٌ علَى صاحِبِهِ.
وكانَ سَلَفُ الأُمَّةِ كَذَلِكَ يُحَذِّرُونَ مِنَ التَّطَرُّفِ والغُلُوِّ، فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t قالَ: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وقَبْضُهُ أَنْ يَذْهَبَ أَهْلُهُ، أَلا وإِيَّاكُمْ والتَّنَطُّعَ والتَّعَمُّقَ والبِدَعَ، وعَلَيْكُمْ بِالعَتِيقِ» وهُوَ ما كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ r وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ [رواهُ الدَّارِمِيُّ].
نَسْأَلُ اللهَ تعالَى الهِدَايَةَ والرَّشَادَ لِشَبَابِنَا وأَبْنائِنَا، وأَنْ يُدِيمَ أَمْنَنَا، ويُقَوِّيَ إِيمَانَنا، ويَحْفَظَ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ مُنْزِلِ القُرْآنِ، النَّاهِي عَنِ الغُلُوِّ والبَغْيِ والعُدْوَانِ ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ العَلِيُّ الرَّحْمَنُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ جاءَ بِالعَدْلِ والفُرْقَانِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ السَّالِكِينَ طَرِيقَ الحَقِّ والبَيَانِ ، وسَلَّمَ تَسليماً مَزِيداً إِلَى يَوْمِ العَدْلِ في المِيزَانِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ -عِبَادَ اللهِ- ونَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تعالَى في كُلِّ الأَحْوَالِ، فَإِنَّها وَصِيَّةُ اللهِ لِعِبَادِهِ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ .
أَيُّهَا النَّاسُ:
إِنَّ مِنْ أَسْبَابِ الغُلُوِّ والتَّطَرُّفِ: قِلَّةَ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ القَائِمِ علَى الدَّلِيلِ، وفُشْوَّ الجَهْلِ بِهِ، والِاعْتِدَادَ بِالنَّفْسِ، وإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وتَقْدِيسَ الأَشْخَاصِ، وعَدَمَ الرُّجُوعِ إِلَى العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ الوَارِثِينَ العِلْمَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ، والِاغْتِرَارَ بِما يَكْتُبُهُ ويَقُولُهُ أَهْلُ الأَهْوَاءِ والفِتَنِ والمَجَاهِيلُ ويَدْعُونَ إِلَيْهِ عَبْرَ وسَائِلِ التَّوَاصُلِ، واسْتِغْلَالَهُمْ عَاطِفَةَ وحَمَاسَ شَبَابِنَا نَحْوَ قَضَايَا الأُمَّةِ، فَيَنْتَهِي بِهِمُ الأَمْرُ أَحْيَاناً - ولِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ - إِلَى إِشَاعَةِ الفَوْضَى والفِتْنَةِ والقَتْلِ في بِلَادِ المُسْلِمِينَ، قالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحِمَهُ اللهُ تعالَى: «والفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ العُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ فَصَارَ الأَكَابِرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عَاجِزِينَ عَنْ إِطْفَاءِ الفَتْنَةِ وكَفِّ أَهْلِهَا، وهَذا شَأْنُ الفِتَنِ كَما قالَ تعالَى: )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً( [الفرقان:25]، وإِذَا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ» انْتَهَى .
لِذا حَذَّرَ نَبِيُّنا r مِنْ ذَلِكَ فقالَ - في وَصْفِ الخَوَارِجِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ الغُلَاةِ ظُهُوراً في الإِسْلَامِ - : «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ» [رواهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ t]. فَهَؤُلاءِ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ حَلالُ الدَّمِ، قالَ أَبُو قُلَابَةَ رَحِمَهُ اللهُ: «مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً قَطُّ إِلا اسْتَحَلَّ السَّيْفَ».
فاليَوْمَ أَصْبَحَ مِنْ مَظَاهِرِ التَّطَرُّفِ والغُلُوِّ: تَكْفِيرُ المُجْتَمَعاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، والقِيَامُ بِالأَعْمَالِ التَّفْجِيرِيَّةِ والتَّخْرِيبِيَّةِ والإِرْهَابِيَّةِ لِلنُّفُوسِ المَعْصُومَةِ والمُسَالِمَةِ، والخُرُوجُ علَى حُكَّامِ المُسْلِمِينَ، فالتَّطَرُّفُ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وهُوَ خَطَرٌ علَى البِلَادِ والعِبَادِ.
فَاحْذَرُوا -عِبَادَ اللهِ- مِنَ التَّطَرُّفِ وَوَسَائِلِهِ الَّذِي هُوَ نِتَاجُ الأَفْهَامِ السَّقِيمَةِ واتِّبَاعِ الْهَوَى والتَّعَاوُنِ مَعَ الأَعْدَاءِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وخُطُوَاتِهِ؛ قالَ اللهُ تعالَى: )وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( [الأنعام:142].
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ ورَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ وعَلِيٍّ، وعَنْ سائِرِ الصَّحابَةِ أَجْمَعِينَ، والتَّابِعِينَ لَهُمْ وتَابِعِيهِمْ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالسَّلَامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، والفَوْزَ بِالجَنَّةِ والنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والـمُشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبادَكَ المُوَحِّدِينَ، واصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ وسُوءٍ في الدُّنْيا والدِّينِ يا رَبَّ العَالَمِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْ أَمِيرَ البِلَادِ وَوَلِـيَّ عَهْدِهِ، وَوَفِّقْهُمَا لِمَا تُحِبُّ وتَرْضَى، وأَصْلِحْ لَهُمَا البِطَانَةَ والرَّعِيَّةَ، واهْدِهِمَا لِلْحَقِّ والصَّوَابِ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ ولَا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِينَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ ولَا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِينَ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الغَيْثَ ولَا تَجْعَلْنَا مِنَ القَانِطِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخاءً رَخاءً، دَارَ عَدْلٍ وإِيمَانٍ، وأَمْنٍ وَأَمانٍ، وسائِرَ بِلادِ الْـمُسْلِمِينَ، وآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة ودروس الإمام